مستقبل البقاء الامريكي بالعراق تطبيق للنموذج الصهيوني
أصدرت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الامريكي، بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 2011، تقريرا بعنوان العراق: الانتقال من المهمة العسكرية الى الجهد المدني. يناقش التقرير المهم خيارات الإدارة الامريكية في استمرارية الوجود العسكري والدبلوماسي في العراق ومدى امكانية وتكلفة تحقيق الانتقال من العسكري الى المدني. وهي النقلة المفترض انجازها بعد الانسحاب العسكري الكامل وفق الاتفاقية الامنية، وتنفيذا لما وعد به الرئيس الامريكي باراك اوباما الشعب الامريكي حول الانسحاب الكلي في شهر تشرين الأول/ اكتوبر 2011.
يتناول التقرير الوضع الحالي في العراق، وسيناريوهات التواجد العسكري الامريكي بعد نهاية هذا العام، ومبادرة الانتقال من الإدارة العسكرية الى الإدارة المدنية لهذا التواجد، وتقسيم المسؤوليات، وحساب الميزانية اللازمة، والعلاقات الاقليمية.
يشير التقرير، بداية، الى ان الفصل الأخير من جهود الادارة الامريكية، بعد انسحاب القوات من العراق، سيكتبه مدنيون. وهذا هو، بالتحديد، فحوى التقرير في تناول خيارات نقل مركز السلطة الامريكية من العسكري (وزارة الدفاع - البنتاغون) الى المدني (وزارة الخارجية)، مع طرح تساؤلات عما اذا كان الاستلام المدني لإدارة المصالح الامريكية هو الحل الافضل ومدى امكانية تحقيقه، آخذين بنظر الاعتبار، عدد الدبلوماسيين وحجم البعثة المدنية والحاجة الى الحماية الامنية، ونوعية المهام في حالة التعرض الى هجوم مسلح مثلا، بالاضافة الى التكلفة المالية وواقعية توفير الاماكن وتعاون واستعداد الحكومة العراقية وجهازها الأمني والعسكري.
يتناول التقرير، بداية، الوضع العراقي ليقدم ما يعتبره اخبارا مشجعة كثيرة: هناك تحسن في الوضع الامني بالمقارنة مع عامي 2006 و2007، هناك، اخيرا، حكومة دائمة على الرغم من أن المفاوضات لتشكيل هذه الحكومة امتدت طوال عام 2010، الا ان القادة العراقيين ابدوا التزامهم بالعملية السياسية.
ولكن التقرير سرعان ما ينتقل للتحذير من ان التقدم لا يزال هشا، وان الوضع غير مستقر والامن غير مستتب في كل المناطق، وان الوضع قابل للانفجار، محددا الجهات المسؤولة عن عدم الاستقرار الأمني بانها تنظيم القاعدة في العراق وغيره من الجماعات الإرهابية الرامية إلى تأجيج العنف والاقتتال الطائفي، متغافلا عن حقيقة مهمة وهي ان القاعدة لم تكن موجودة في العراق قبل الاحتلال الانجلو امريكي له وكذلك الاقتتال الطائفي، وليد سياسة فرق تسد الاستعمارية. ويصف التقرير الوضع السياسي، مؤكدا بأن القضايا السياسية الأساسية لا تزال دون حل، من قوانين النفط والغاز، الى كركوك وغيرها من الحدود الداخلية المتنازع عليها، الى طبيعة الفيدرالية العراقية. وهي، كما هو معروف، قضايا ولدت على يد الاحتلال. اما الوضع الاقتصادي فإن العراق لديه القدرة على أن يصبح دولة غنية، الا انه سيبقى يواجه صعوبات مالية حتى عام 2014،على الأقل، عندما تتحقق الزيادة في إنتاج النفط.
ولعل الجزء الأهم في التقرير هو تأكيد موقف الادارة الامريكية، بأنه مهما كانت السيناريوهات المطروحة حول ابقاء قوة عسكرية في العراق مختلفة فإنها ستبقى بالتأكيد في إطار تطلق عليه ادارة الاحتلال إسم مكتب التعاون الأمني واصفة عمل القوات بأنها ستكون مسؤولة عن تعزيز العلاقة الدفاعية الثنائية عن طريق تسهيل المساعدة الأمنية. ويشبه مكتب التعاون الأمني لجنة التنسيق الأمني المشتركة بين السلطة الفلسطينية برئاسة أبو مازن وسلطة الاحتلال الصهيوني. وكما يذكر الدكتور حيدر عيد، الاكاديمي من جامعة الأقصى في غزة، فإن تسمية لجان التنسيق الأمني هي المصطلح اللفظي الجديد لما كان يعرف سابقا بالعملاء.
اما بالنسبة الى السياسة الامريكية فيعتبر التقرير ان الانتقال، في السنة المقبلة، من الوجود العسكري إلى المدني مهمة حاسمة بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وسيكون اختبارا لديمومة التقدم المحرز في السنوات الأخيرة. وسيكون مؤشرا على التزام الولايات المتحدة بالشراكة الثنائية. وسوف يكون ذا تأثير مهم على مكانة العراق في الهيكلة الأمنية الإقليمية.
فما هي طبيعة الانتقال وما هي صورة المستقبل القريب لحضور المحتل المدني وبعثته الدبلوماسية في أكبر سفارة في العالم ذات المطار الخاص لنقل الموظفين والمستخدمين؟
يخبرنا التقرير بأنه من المفترض، وفق الاتفاقية الامنية، ان يتم سحب الخمسين الف عسكري امريكي، ويتم تسليم المهام الى بعثة دبلوماسية، من المتوقع ان تتألف، في الوقت الراهن، من 17 ألف شخص في 15 مواقع مختلفة، بما في ذلك ثلاث قواعد جوية، وثلاثة مراكز تدريب للشرطة وقنصليتان في البصرة واربيل وفرعان في كركوك والموصل، وخمسة مواقع للتعاون الأمني. ستتطلب كل قنصلية حوالي 1400 شخص لحماية 120 موظفا تنفيذيا بينما ستتطلب المكاتب الفرعية حوالي 600 شخص لحماية 30 موظفا. اي ان كل موظف امريكي سيحتاج 20 متعاقدا أمنيا (المرتزقة). واشار التقرير، بدون تفصيل، الى وجود 75 ألفا من المرتزقة أو المتعاقدين الأمنيين الناشطين، حاليا، على مختلف المستويات من العمليات القتالية الخاصة الى تجميع المعلومات والترجمة والتعذيب. ما الذي سيحل بهم؟ تحت أي غطاء سيواصلون نشاطاتهم الاجرامية؟ ولم يتعرض الى فرق العمليات السرية الخاصة، سواء تلك التابعة لـ السي آي ايه، أو لوزارة الدفاع.
هذه الاسئلة، نفسها، تبقى معلقة أيضا بالنسبة للعراقيين في غياب وجود حكومة وطنية ذات سيادة. ويكرر التقرير المرة تلو المرة بأن تحقيق النقلة من العسكري الى المدني سيتطلب توفير حماية استثنائية ومكلفة لأفراد ادارتها الباقية، وان الاوضاع لا تسير، حقا، كما كانوا يأملون ويشتهون عند غزوهم العراق.
وان السؤال الرئيسي الذي يواجه الادارة الامريكية هو انه ما دامت سياسة محاربة التمرد وبناء الدولة، عنصرا جوهريا في سياسة امريكا الخارجية، كيف تتمكن وزارة الخارجية من العمل بشكل فاعل في ظروف أمنية صعبة بلا دعم من القوات المسلحة الامريكية؟.
جوابا على هذا السؤال، قدم التقرير ثلاثة سيناريوهات: ينص الاول على الانسحاب الكلي للقوات الامريكية باستثناء مكتب عسكري لقوات محددة تعمل ضمن مبنى السفارة. وان كان تعريض الدبلوماسيين للخطر، بسبب عدم امكانية توفير الحماية، قد يدفع الولايات المتحدة الى تقليص عدد بعثتها ايضا باعتبارها خطة طموحة اكثر مما يجب. ينص الثاني على ابقاء قوة عسكرية محدودة تعمل مع السفارة ولكن تحت اسم مكتب التعاون الامني مع القوات الامنية العراقية مما يقلل من تكاليف حماية البعثة ويقلل من الخلاف حول توزيع الصلاحيات بين وزارة الدفاع والخارجية الامريكية. ويطرح الثالث فكرة التفاوض مع حكومة المالكي حول توقيع اتفاقية أمنية جديدة تنص على بقاء القوات العسكرية وتعاونها مع القوات العراقية لمحاربة التمرد وتعزيز القدرة القتالية على الرغم من ان هذا السيناريو سيؤدي لانهيار الثقة بوعود اوباما وتعزيز صورة امريكا كبلد يريد استمرار الاحتلال. وعما اذا كانت حكومة المالكي ستوافق او لا، يشير التقرير الى انه وبالرغم من تلميحات الحكومة بانها لا تريد اعادة التفاوض بشأن بنود الاتفاقية الامنية الا ان الباب لا يزال مفتوحا لتمديد التواجد العسكري لفترة محددة. ويتوقع التقرير ان تكلفة تمكين البعثة الجديدة من تحقيق القدرة التشغيلية الكاملة ستبلغ من 20 30 مليار دولار امريكي، على مدى خمس سنوات.
يطغى على التقرير، على الرغم من محاولته تقديم بعض الاخبار المشجعة، القلق ازاء استمرار المقاومة العراقية في توجيه الضربات الى قوات ومصالح الاحتلال (بلغ معدل القتلى المعلن عنهم من قواتهم لعام 2010 خمسة جنود شهريا) كما ينصح التقرير بعدم الاطمئنان الى قدرة قوات الامن العراقية والتخوف من ردة فعل الرأي العام الامريكي تجاه ادارة اوباما التي تعاني من مشاكل سياسية وازمة اقتصادية كبيرة، يرى الكثير من الامريكيين ان جذورها تبرعمت نتيجة تكلفة احتلال العراق الباهظة.
ان لكل من الخيارات الأمريكية ما يقابلها من خيارات عراقية سواء من قوى المقاومة العراقية المسلحة أم من قوى المقاومة السلمية، وكلها تصب باتجاه تحرير العراق والمطالبة بالتعويضات لقاء ما لحق البلد وسكانه من قتل وتدمير وتشرد وتثبيت حقوق الإنسان وإنصاف الضحايا، وبناء مجتمع مدني تكافلي سليم. ان سيناريوهات الادارة الامريكية الجديدة ستفشل، كما فشلت سابقاتها، لانها تتجاهل حقيقة تاريخية بسيطة وهي ان مقاومة الشعب العراقي ستستمر حتى رحيل آخر جندي ومستشار ومرتزق ومستخدم أجنبي.
كاتبة عراقية
المصدر: القدس العربي