السيد نصر الله : الولي الفقيه الإمام الخميني أعاد التوازن الذي أضاعه العرب بعد كامب ديفيد

نص كلمة سماحة الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله كاملاً
 
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا خاتم النبيين أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الأخيار المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
في كل عام، وفي مثل هذا الاحتفال المبارك، نحيي ذكرى الإمام. وكنت في الأعوام السابقة عندما أوفق لأكون في خدمتكم أتناول جانباً من إنجازات الإمام وفعله وسيرته التي تكشف عن عظمة شخصيته وشموخ فكره وروحه القوية الصافية والنقية.
اليوم نقف أيضاً بين يدي الإمام الخميني (قدس سره) في زمن الثورات في المنطقة وزمن الاستحقاقات الدستورية وزمن إعادة صياغة الدول والمصائر ولنستهدي ونستلهم فكر الإمام وسيرته وعطاءه ولنقف عند بعد جديد من عظمة شخصيته.
من إنجازات الإمام المعروفة في السابق تحدثنا عن إحياء منظومة القيم، وعن موضوع المقاومة والجهاد. اليوم أود قليلا أن أتحدث عن انجاز الدولة.
من المعروف أن الإمام أنجز انتصاراً تاماً وكاملاً في مجال الثورة التي انطلقت في إيران، وأدت إلى إسقاط نظام الشاه الملكي الديكتاتوري العميل لأمريكا المستبد واقتلاع هذا النظام الفاسد من جذوره.
هذا إنجاز تام، لكن الإنجاز الأهم والأخطر للإمام رضوان الله عليه هو إنجاز بناء وإقامة الدولة والنظام البديل عن نظام الشاه، وبالتالي تعطيل كل ما يمكن أن يسمى بثورات مضادة اعتادت عليها الإدارات الأمريكية، والتي لها سابقة في إيران، عندما انتصرت ثورة مصدق على الشاه.
خرج الشاه ولكن الثورة المضادة الأمريكية أعادته على ظهر الدبابات إلى طهران.
مع الإمام كان انتصار الثورة كاملاً وتاماً، وكان إنجاز الدولة هو الإنجاز الأخطر والأهم، والتحدي الأخطر والأهم.
كان الإمام ومعه الشعب أمام تحدي بناء نظام جديد يستند إلى آراء وإرادة الشعب، وإلى حضارة وثقافة ودين هذا الشعب، ولدى هذا النظام القدرة على معالجة الأزمات وتحقيق الأهداف والصمود أمام التحديات والتهديدات التي لم تتوقف يوماً منذ الانتصار إلى اليوم بعد انتصار الثورة.
سأدخل هنا إلى أداء الإمام وأود استخدام كلمة الولي الفقيه عندما أتحدث عن الدولة رغم أن اسمها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أود استخدام دولة الولي الفقيه عامداً متعمداً لسبب أذكره فيما بعد.
بعد انتصار الثورة الإسلامية وسقوط النظام كان للإمام رضوان الله عليه رؤية كاملة حول النظام ومستقبل النظام وهيكلية النظام، وقارب هذه الرؤية في كتاب ألّفه قبل 40 سنة. ولكن الإمام لم يفرض رؤيته على الناس، وإنما دعا إلى استفتاء عام حول هوية النظام الجديد. قبل الحديث عن الدستور سنتحدث عن هوية النظام، علينا وضع دستور.
وكان السؤال المطروح على الشعب الإيراني بكل اتجاهاته وتياراته ما هو طبيعة وهوية النظام الذي تريدون؟
في إيران كان هناك نظام ملكي استبدادي وراثي، هل تريدون نظاماً مشابهاً، فنستبدل ملكاً بملك، أم تريدون نظاماً ملكياً ولكن ملكية دستورية كما يطرح الآن في بعض الدول، أم تريدون نظاماً جمهورياً؟ إذا أردتم نظاماً جمهورياً، هل تريدون لهذا النظام الجمهوري هوية عقائدية أم تكفي الهوية الوطنية السياسية العامة، هوية حضارية، هوية ثقافية فكرية.ما هي هوية هذا النظام؟وحدد موعداً لاستفتاء عام للإجابة على هذا السؤال.
كل التيارات السياسية المشاركة في الثورة عبرت عن آرائها وسط الناس، في الجامعات، في المساجد، في الحسينيات، في القاعات، في المؤتمرات، في المظاهرات.
الكل خطب، الكل أصدر دراسات، الكل كتب في الصحف، وأتيحت الفرصة للجميع ليعبروا عن آرائهم وتقديم أدلتهم لإقناع الشعب الإيراني. ثم حصل الاستفتاء وشاركت الأكثرية الساحقة من الشعب الإيراني بهذا الاستفتاء، وقالت كلمتها: نعم للجمهورية الإسلامية.
إذن، هذا النظام اختاره الشعب الإيراني ولم يفرضه الولي الفقيه.
 
 نبدأ من هنا عندما حسم الشعب هوية النظام بإرادة ساحقة وعارمة. هو أعلن قبوله وإرادته بنظام باركه الإمام وأيّده الإمام، يقوم على ركيزتين:
الأولى: جمهورية، نظام جمهوري. من جملة ما يعني أن كل مواقع السلطة الأساسية في إيران تخضع للانتخاب الشعبي، سواءً المباشر كما هو الحال في انتخاب رئيس الجمهورية أو نواب المجلس النيابي أو المجالس البلدية، أو غير المباشر عندما ينتخب الشعب الإيراني مجموعة كبيرة من الفقهاء الخبراء الذين يقومون بدورهم بانتخاب الولي الفقيه. وخلافاً لما هو سائد، في إيران لا يوجد موقع سلطة أساسي غير منتخب من الشعب، إما مباشرة أو بشكل غير مباشر. الركيزة الأولى للنظام جمهوري.
والركيزة الثانية: هو النظام الإسلامي الذي يقوم على أساس قيم وتعاليم وأحكام الإسلام القادر على مواكبة كل تطورا ت العصر وحاجات المرحلة من خلال الاجتهاد الفكري والفقهي والذي يأخذ عنصري الزمان والمكان بعين الاعتبار، وإيران غنية بالمفكرين الكبار والفقهاء العظام والمجتهدين المتخصصين
بناء على هذه الهوية للنظام الجديد أراد الولي الفقيه الإمام الخميني أن يكون لهذا النظام الجديد دستوره الثابت والراسخ، فدعا إلى انتخاب مجلس خبراء لصياغة دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، ومجلس الخبراء ينتخبه الشعب الإيراني.
قام الشعب بانتخاب ممثليه لمجلس صياغة الدستور ووضع الدستور، واجتمع مجلس الخبراء هذا وقام بمناقشات مطولة، وكان يتشكل من فقهاء وعلماء ورجال قانون ورجال سياسة ونخب متنوعة, ولكنه جاء بالانتخاب ولم يأتِ بالتعيين.
لم يعيّن الولي الفقيه ـ كما يفعل الآن الحكام في كثير من الدول التي يريدون فيها إنشاء دساتير ـ لم يعيّن مجلساً لوضع وصياغة دستور، وإنما الشعب هو الذي انتخب هذا المجلس وكل النقاشات كانت علنية وعلى مرأى ومسمع الشعب الإيراني. وبعد الانتهاء من صياغة المسودة كان الولي الفقيه يستطيع أن يقول للناس إن ممثليكم هم الذين وضعوا هذه المسودة لهذا الدستور ويصادق عليه ويقول لهم اتكلنا على الله، ولكنه لم يفعل ذلك، بل أرسل الدستور لاستفتاء شعبي جديد وخرج الشعب الإيراني بأكثريته الساحقة وبملء إرادته ليوافق على الدستور الإيراني الذي ما زال معمول به حتى الآن.
أصبح لدينا نظام ودستور، لكن هوية النظام، واضعي دستور النظام، نفس دستور النظام، كله كان يعبر عن إرادة شعبية. ودور الولي الفقيه هنا كان يقتصر على دور المرشد والناظم ولم يفرض أي إرادة ولم يفرض أي رأي حتى عندما ذهب إلى صندوق الاقتراع، لم يقل: أنا كولي فقيه أصوّت للجمهورية الإسلامية أو للدستور، وإنما كأي مواطن إيراني أصوّت للجمهورية الإسلامية وللدستور.
انتقلنا إلى مرحلة التنفيذ: انتخابات رئاسية تحصل في مواعيدها، انتخابات المجالس النيابية تحصل في مواعيدها، انتخابات مجلس خبراء القيادة التي تنتخب القائد وتعزل القائد تحصل في مواعيدها، انتخابات المجالس البلدية تحصل في مواعيدها، في ايران عمر هذا النظام 32 سنة، حتى الآن جرى 31 انتخاب شعبي على المستوى الوطني، وخلال أشهر من هذه السنة هناك انتخابات لمجلس النواب، نكون أمام 32 انتخاب، وخلال السنة المقبلة يكون عمر النظام 33 سنة يكون هناك انتخاب رئاسة جمهورية جديدة.
هذه دولة الولي الفقيه، دولة الانتخابات الحقيقية، هذه الانتخابات كانت تجري أيضاً في ظل إقبال جماهيري لا مثيل له في تاريخ الانتخابات في العالم، حتى نسبة المشاركة كانت دائماً تفوق نسبة المشاركة في أقدم وأهم الديمقراطيات في العالم، وآخر الانتخابات الرئاسية شارك فيها 40 مليون إيراني.
أين توجد انتخابات رئاسية بهذا الحجم وبهذا المستوى؟ هذا في دولة الولي الفقيه.
أيضا في دولة الولي الفقيه دولة قانون حقيقية. مجلس النواب المنتخب يعمل في الليل والنهار. طبعاً هو لا يشرّع، حتى لا نقع في الإشكالات الشرعية، هو يقوم بصياغة قوانين منسجمة مع أحكام الإسلام تعالج مشكلات وحاجات الناس والشعب والبلد. هذه القوانين ترسل إلى مجلس صيانة الدستور للتأكد، وليس من شأنه التدخل في التفاصيل، ويقدم رأياً وهو فقط يجيب عن شيء واحد، وهو هل إن هذه القوانين المقدّمة منسجمة مع الدستور، ولا تخالف الشريعة الإسلامية؟ 
في حال مخالفتها يردها إلى المجلس النيابي ليقوم بالتعديلات التي يراها مناسبة، ومجلس صيانة الدستور لا يفرض هذه التعديلات. وفي كل هذه الحركة الأمور تسير بشكل طبيعي.
المجلس خاضع للقانون ومجلس صيانة الدستور خاضع للقانون، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية، الولي الفقيه نفسه ملتزم بالدستور وبالقانون، ومسؤول عن تنفيذ الدستور والقانون ويأمر بالالتزام بهما. إذن، دولة الولي الفقيه هي دولة قانون حقيقية، وأيضاً هي دولة مؤسسات حقيقية.
 
في إيران لا يوجد شخص واحد هو يدير البلد وهو الذي يحكم البلد ويضع برامج ويضع سياسات وكل الأشخاص ينفذون، في إيران يوجد سلطة يسمونها سلطة مقنّنة، يوجد سلطة مقنّنة حقيقية وهناك سلطة تنفيذية حقيقية يرأسها رئيس الجمهورية وسلطة قضائية مستقلة وقادرة ومبادرة وقوية، وهناك فصل حقيقي بين السلطات، وكل سلطة تعرف حدودها وصلاحياتها وواجباتها وتذهب وتعمل.
المرشد الولي الفقيه يشرف على السلطات بمنعها من تجاوز حدودها وصلاحياتها ينسق فيما بينها فيما إذا احتاج الأمر إلى تنسيق يعالج مشاكل التداخل فيما بينها إن وجددت يقوم بالتوجيه لكنه لا يتدخل، لا في وضع القوانين ولا في إجراء القوانين ولا في أحكام القضاء، إنما يشرف.
في دولة الولي الفقيه السلطة ليست لشخص وإنما لمؤسسات تعمل في إطار القانون والدستور وتحته، وفي دولة الولي القيه الكل تحت المحاسبة أمام الجهات القضائية والرقابية حتى الولي الفقيه مسؤول أمام القضاء إذا كان هناك أي سلوك شخصي أو تجاوز على حقوق الآخرين، ومسؤول أمام مجلس خبراء القيادة الذي يستطيع أن يحاسب وأن يحاكم وأن يعزل المرشد والولي الفقيه إذا ارتكب أي خطأ يؤدي إلى سقوط مؤهلاته أو بعض شروط توليه للسلطة. هذه بعض الجوانب في دولة الولي الفقيه ولن أطيل أكثر من ذلك لأنه لدي بعض الكلام في الشأن اللبناني.
 
عندما نقول دولة الولي الفقيه أيضاً، احد هذه الجوانب يعني أن رأس الهرم هو شخصية يجب أن تتوفر فيه مواصفات محددة، ولا يمكن أن يملأ هذا الأمر أي إنسان، وهذا يعني أن يكون فقيهاً مجتهداً عالماً، وهنا لا نتكلم عن الزي بل نتكلم عن العلم: أن يكون فقيهاً مجتهداً عالماً، ما يعني في الأدبيات الحالية أن يكون رجل قانون من الطراز الأول، وصاحب رأي في القانون، ولا يذهب لكي يسأل أساتذة القانون، هو صاحب رأي هو مجتهد.
ثانياً: أن يكون عادلاً وذلك يعني أن يكون ملتزماً بشدة في سلوكه الشخصي وسلوكه العام بالقانون وبهوية النظام.
ثالثاً: يجب أن يكون حكيماً، مدبراً، مديراً، شجاعاً، قادراً على القيادة والإدارة، أن يكون رأس السلطة في أي بلد شخصاً ـ ولكي "نضع الزي جانبا" ـ شخصاً هو رجل قانون من الطراز الأول، صاحب رأي قانوني أشد الناس التزاماً بالقانون، حكيماً وشجاعاً وحليماً ومديراً ومدبراً، هذه مفخرة للنظام وللشعب الذي يرأسه ولي وقائد وزعيم من هذا النوع.         
تصوروا نظام بلد رأس الهرم فيه هو شخصية من هذا النوع، إذا أخذت فقط الجانب الشخصي في تجربة الامام الخميني (قده)، وتجربة سماحة الامام الخامنئي (دام ظله)، أمام هذه الفضائح التي نسمعها اليوم كنتائج بعض نتائج الثورات العربية، هذا الرئيس تبيّن أن عنده هو وزوجته وأولاده وأصهرته وحمواته وأقرباؤه، هذا 70 مليار وهذا 50 مليار وهذا 30 مليار وهذا 100 مليار لماذا؟ لأنه لا يوجد دولة قانون ولا دولة مؤسسات ولا رقابة ولا قضاء، هناك زعامة مطلقة، لكن ماذا كان يملك الامام الخميني وماذا ترك الامام الخميني لزوجته واولاده؟ كلكم تعرفون: لا شيء.
الآن ماذا يملك الامام الخامنئي ؟ وكيف يعيش الامام الخامنئي، وأي راتب يتقاضاه الامام الخامنئي؟ هذا نموذج .
لذلك في ظل هذا النظام وهكذا دولة استطاع الشعب الايراني أن يصمد أمام كل الأخطار والتحديات والحروب وأن تتحول إيران إلى قوة إقليمية كبرى وأن تحافظ على سيادتها الكاملة واستقلالها التام وأن تتقدم على كل صعيد فكري وثقافي واقتصادي واجتماعي وأمني وعسكري وعلمي.
قبل مدة صدر تقرير عن إحدى المؤسسات الدولية تقول: "إن التطور العلمي في إيران في معدل دولي، يأتي ويقول هذا التطور العلمي في البلد تحت المعدل الدولي أو فوقه بمرتين أو ثلاثة أو أربعة، يقول هذا التقرير إن التقدم والتطور العلمي في إيران هو طبق المعدل الدولي بـ 250 مرة مضاعفة ، هذه دولة ولي الفقيه، نعم.
أنا كنت متردداً أن أقول هذه الجملة، ولكن دعوني أقولها: "نعم لا يوجد في دولة الولي الفقيه "ستار اكاديمي"، لا يوجد، لأن شباب وشابات إيران يذهبون للمشاركة في الاولمبياد العالمي للتنافس في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب ويحوزون على أوسمة ذهبية .
أريد أن أختم هذا القسم بما يرتبط ببعض جوانب دولة الولي الفقيه وأحببت أن أقول أيضاً ما يلي: من جملة نقاط القوة في هذا النظام استعداده الدائم للتطوير، وهذا مدخلي إلى الحديث عن لبنان كلمتين: إن من جملة نقاط القوة في هذا النظام استعداده الدائم للتطوير وإيجاد آليات دستورية لمعالجة المشكلات الناشئة، وهذا ليس عيباً.
أي دولة حديثة متطورة حريصة مسؤولة ممكن كل 10 سنوات، 20 سنة، 40 سنة ويمكن أقل تأتي وتجري تقييماً، ولا تنسف الدستور الخاص، لا، ترى اذا كان هناك مشاكل ليس لها حلول، تذهب وتفتش عن حلول، تحتاج إلى آليات دستورية، تنتج آليات دستورية.
في ايران هذا أنجز بعد عشر سنين، عندما اكتشفوا أن في السلطة التنفيذية إعاقة، لان هناك رئيس جمهورية ورئيس وزراء وهناك حكومة، فعدلوا الدستور: أصبح رئيس الجمهورية هو رئيس الحكومة فاختصروا موقعاً وبسّطوا الموضوع.
وفي السلطة القضائية عدّلوا أيضاً نتيجة تجربة، ومع ذلك، لأن هذا يحتاج الى تعديل دستوري، عرض على الشعب الايراني الاستفتاء من جديد.
كانت تحصل مشاكل حول بعض القوانين بين مجلس النواب والحكومة، ومجلس صيانة الدستور. كانوا يقدرون أن يقولوا: عندما يحصل خلاف يحلّه الولي الفقيه، لكن حتى هذا ولي الفقيه لم يفعله. قال لهم: لا، ننشئ مؤسسة هي المرجع لحل الخلافات بين مجلس النواب ومجلس صيانة الدستور والسلطة التنفيذية، وهو مجلس تشخيص مصلحة النظام. انظروا إلى التأكيد على أهمية المؤسسة في الإدارة، في معالجة المشاكل وتخفيف العبء عن الشخص أيّاً يكن هذا الشخص عظيماً، ولو بعظمة الإمام الخميني (قده) أو الإمام الخامنئي.
هذا المدخل أحببت أن أدخل منه إلى الوضع اللبناني بكلمتين، ولكن قبل أن أنسى الملاحظة التي قلتها في البداية: الدولة في إيران اسمها الجمهورية الاسلامية في إيران وليس اسمها دولة ولاية الفقيه ولا دولة الولي الفقيه، وإن كانت ولاية الفقيه هي عامود أساسي من أعمدة هذا النظام، إنما أصرّيت على تكرار هذا المصطلح، لأنه في السنوات الاخيرة هناك جهد عالمي وفكري وثقافي و"دراساتي" وإعلامي للتسقيط ، تسقيط كل ما ينتسب إلى هذه الأمة وحضارتها وثقافتها وعناصر قوتها، تسقيط مفهوم الجهاد وقيم الجهاد، ليس فقط فعلاً اعلامياً، ولكن حتى من خلال الممارسات، تسقيط مفهوم الشهادة وكلمة شهيد ومعنى شهيد، تسقيط مفهوم المقاومة ومصطلح المقاومة، تسقيط مفهوم الأمة ومصطلح الأمة. ومن جملة المعاني والمصطلحات والمفاهيم والنظريات التي تشكل الأساس في قوة النظام الإسلامي في إيران هي ولاية الفقيه، واشتغلوا أيضاً على إسقاطها.
عندما يقال: ولاية الفقيه، يحاولون أن يظهرو كأن دولة ولاية الفقيه هي نظام استبدادي ديكتاتوري قمعي يريد أن يعيد الناس إلى القرون الوسطى، لا يتفهم حاجات الناس، ليس فيه مجال لأي تطوير، ليس فيه مجال لأي مشاركة. هذه كلها أكاذيب وأضاليل، والناس مدعوون إلى معرفة الحقيقة والبحث عنها.
 
من هنا أدخل إلى الموضوع اللبناني: نحن في لبنان جميعاً نريد الدولة ونؤيد مشروع الدولة.
ومن حيث المبدأ أنا لا أعتقد أن أحداً في لبنان من اللبنانيين لا يريد ذلك. اتركوا المزايدات على جنب، يعني بين 8 اذار و 14 اذار وعندما تتعقد الحكاية بين بعضهما "هؤلاء يقولون لا يريدون الدولة وأولئك يقولون ايضا هم لا يريدون الدولة".
لا ، أنا شخصياً أعتقد أنه لا يوجد بين اللبنانيين أحد مهما يكن إلا ويريد الدولة في لبنان، ومشروع دولة في لبنان. طبعاً نختلف كيف تكون الدولة وما هي الدولة، هذا بحث آخر. أنا أتكلم بالمبدأ، الكل عاش خلال عقود من الزمن في لبنان تجارب مؤلمة جداً، تجارب أمن الميليشيات (الأمن الذي تحققه الميليشيات للناس)، تجربة الادارات المحلية، تجربة الكانتونات المغلقة، وخطوط التماس، وحصد اللبنانيون نتائجها.
لبنان لا يحتمل لا دويلات ولا كانتونات ولا إدارات محلية، أي أمن ذاتي سيكون فاشلاًُ وعاجزاً ومأزوماً، نحن نؤمن بأن شرط الوحدة والأمن والاستقرار والتطور والنمو في لبنان هو قيام دولة واحدة حقيقة.
أيضاً كلنا يقول إنه يريد دولة القانون والمؤسسات، إذا نظرنا إلى الخطابات والأدبيات والبرامج السياسية والانتخابية كلنا نتكلم بهذه اللغة، هذه الدولة موجودة نسبياً، لكن هناك عثرات ومشاكل في طرق استكمالها أو اكتمالها. واحدة من هذه المشاكل تكمن في نظر البعض في الصيغة أو في الدستور أو في اتفاق الطائف.
بطبيعة الحال نحن في لبنان لدينا مشكلة أساسية وهي أن الصيغة السابقة قبل الطائف كانت نتيجة تسوية، والطائف بالصيغة القائمة حالياً كان نتاج تسوية. نتيجة تركيبة البلد المعروفة يصعب اعتماد الآليات العادية والطبيعية لوضع دساتير أو تعديل دساتير. انتخاب مجلس خبراء ومجلس الخبراء يضع الدستور ويعرض على الاستفتاء العام، هذا الأمر في لبنان صعب ومعقد، نتمنى أن يأتي يوم نستطيع فيه أن نفعل هكذا أمر، لذلك نحن نجد دائما أنفسنا أمام أي أزمة يفتح هذا الجدال من جديد وينقسم اللبنانيون. لأن الأسبوع الماضي حصل لدينا مشكلة لها علاقة بموضوع الاتصالات، ونتيجة ما جرى عاد النقاش وفتح من جديد، الدعوة إلى تعديل الطائف وفي المقابل الدعوة إلى التمسك بالطائف، والخشية دائماً أمام أي مطلب أساسي وكبير وجوهري من هذا النوع أن نعود إلى الانقسامات الطائفية والاصطفافات الطائفية.
 
أنا اليوم أقترح وأقول ما يلي: دعونا نخرج من هذه الدوامة وبالاستفادة من تجربة صاحب الذكرى نقارب الموضوع بطريقة مختلفة، تعالوا نتجنب الحديث عن التمسك بالطائف أو تعديل الطائف، تعالوا لنقول لدينا فعلا دستور ولدينا قانون ولدينا نظام، وبعد عشرين سنة أو أكثر لدينا ثغرات أو مشاكل تحتاج إلى معالجة وإلى وضع آليات جديدة، وبالتالي فليكن عنوان مقاربتنا لأي مشكلة من هذا النوع هو عنوان تطوير النظام، هذا النظام القائم لا نريد أن نعود به إلى الخلف، العودة إلى الخلف تعني العودة إلى المشاكل السابقة، تعالوا نتحدث عن المستقبل، عن تطوير النظام بعيداً عن الخلفيات الطائفية المذهبية وماذا تربح هذه الطائفة وتخسر تلك الطائفة، هناك مشاكل وثغرات حقيقية يمكن أن تقوم جهات ذات اختصاص قانوني وسياسي بدراستها.
أنا لا أريد أن أطرح آلية معينة، يمكن لمجلس النواب أن يكلّف أحداً أو لجنة، ممكن للحكومة أن تكلف لجنة، ممكن لمؤتمر الحوار الوطني أن يكلف لجنة من قانونيين وسياسيين وأناس هادئين وليس لهم علاقة بالعمل السياسي اليومي والأزمات السياسية اليومية فيجلسوا ليقيّموا هذه التجربة ويبيّنوا أين توجد ثغرات أو خلل أو فراغ وأن يقترحوا آليات دستورية أو قانونية لمعالجة هذه الأمور ويكون العنوان هو تطوير النظام، ونحن بالفعل بحاجة إلى تطوير النظام في لبنان ليتماشى مع حجم الحاجات والتطورات والتحديات المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية وإلى آخره. لا نستطيع أن نبقى حيث نحن.
ولكن طبعاً، عندما نتحدث عن تطوير فنحن نتحدث عن سعي إلى التوافق والتلاقي والإجماع وليس إلى الغلبة، لأن التطوير مع الغلبة قد يؤدي إلى نتائج سلبية وعكسية لا يريدها أحد منا.
النقطة الأخرى في الشأن اللبناني، أيضا في المسار نفسه، كنتيجة لأزمة النظام، بل أزمة المجتمع التي يعيشها لبنان منذ البداية، تنشأ دائما لدينا أزمات حكومية وأزمات تشكيل الحكومات.
لا أريد أن أتحدث عن تاريخ تشكيل الحكومات في لبنان لأهوّن من الخطب القائم. الخطب القائم هو غير مبرر أيّا تكن السير الذاتية لتشكيل الحكومات سابقا، لكن في الوضع الحالي يجب أن تستمر الجهود، ليس هناك خيار آخر، يجب أن نواصل العمل وسنصل إلى نتيجة بكل تأكيد إن شاء الله. نحن كجزء من الأكثرية الجديدة نعرف الصعوبات والتعقيدات ونتفهم مخاوف وقلق بعض الحلفاء والأصدقاء ولسنا في وارد التعليق ولسنا في وارد توزيع المسؤوليات والتبعات والعتابات، نحن أولويتنا هي مواصلة العمل والتعاون مع الجميع ومساعدة الرئيس المكلّف لإنجاز تشكيل الحكومة.
 
إن أي انفعال أو سلوك منا يؤذي هذه المساعي لن نقدم عليه، حتى لو اتهمنا أو ظلمنا فليس هناك مشكلة، تشكيل الحكومة في رأينا هو مصلحة وطنية وليس مصلحة حزبية ولذلك نقدّمها على أي اعتبار. هذه التعقيدات والصعوبات موجودة دائما ـ أيها الأخوة والأخوات ـ في الوضع الداخلي اللبناني، وبطبيعة الحال هي تنتج أوضاعاً تحزننا جميعاً، لذلك نكون أمام هذا النوع من الأوضاع كلنا حزينين، لكن لا يجوز أن نصاب بالإحباط ، لا يجوز أن ينال منّا اليأس، هناك مسؤولية على عاتق القيادات السياسية كلها أمام الشعب وأمام الوطن، وعن الوضع القائم، ولا يستطيع أحد أن يحيّد نفسه عن هذه المسؤولية، لذلك أنا أقول اليوم إن المساعي قائمة ومستمرة واستأنفت بفعالية جيدة إن شاء الله، وستستمر ولن نهدأ قبل أن نصل إلى نتيجة ونأمل أن تدفع التطورات الأخيرة الجميع إلى التعاون والتكامل والتكافل وحسم هذا الأمر الذي ينتظره اللبنانيون منذ أشهر.
أيضاً أمر آخر، القيادات السياسية في لبنان في هذه المرحلة، كلها، إلى أي تيار انتمت، ينبغي أن تدرك جيداً أنها تتحمل الآن مسؤولية تاريخية. 
من الخطأ التعاطي مع الأوضاع السياسية والأمنية في لبنان بمعزل عن ما يجري في المنطقة.
ما زلنا نرى أن الكثيرين منا، حتى لو اعتبرناها جزءاً من النقد الذاتي، يتصرفون كأن لبنان جزيرة ويغفلون عن كل ما يجري حولنا، مع العلم أن ما يجري حولنا على مستوى المنطقة هو خطير جداً.
قبل أيام كنت أستمع إلى مناقشات على إحدى الفضائيات العربية، تناقش بشكل جدي مع عدد من الخبراء والسياسيين خيار تقسيم اليمن، والحديث عن تقسيم اليمن إلى أربعة أقسام، وبدأوا بتقسيمه من الآن. السودان قسّم، وحتى شمال السودان معرض إلى مؤامرة تقسيم جديدة في موضوع دارفور وغيرها، اليمن مهدد بالتقسيم، ليبيا مهددة بالتقسيم. لا سمح الله، إذا أخذت الأمور منحىً سلبياً في سوريا، وإن كنا نعتقد أنه سيتم تجاوز هذه المحنة بوعي القيادة السورية والشعب السوري، أيضاً ما يحضر لسوريا هو تقسيم. ما كان يحضّر للعراق هو التقسيم، وعندما تقسّم هذه الدول سيصل التقسيم إلى المملكة العربية السعودية ولن يقف عند حد.
هذا هو المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي، هذا هو الشرق الأوسط الجديد الذي دمّرنا طلائعه في حرب تموز 2006 ، ودمّر إخواننا في غزة طلائعه في حرب 2008، ولكنه يعود بثياب جديدة وعناوين جديدة، يجب أن نكون حذرين منها.
لذلك عندما نقارب الملفات في لبنان، أي نوع من الملفات، لا يجوز أن يغيب عن عيوننا وعقولنا ما يجري حولنا في المنطقة.
اليوم في لبنان ليس فقط في مسألة تشكيل الحكومة، أنا قلت من أوجب الواجبات العمل على تشكيل الحكومة، اليوم أضيف، من أوجب الواجبات الحفاظ على مؤسسات الدولة، على بنية الدولة، بمعزل عن واقعها المتعثر هنا أو المرتبك هناك.
كل مؤسسة من مؤسسات الدولة اليوم يجب أن نعمل على الحفاظ على وحدتها على تماسكها وخصوصاً المؤسسات الأمنية وبالأخص المؤسسة الوطنية، الجيش اللبناني، لأن الحفاظ على بنية الدولة هو الذي يحافظ على وحدة البلد، على أمن البلد، على استقرار البلد، في الحد الأدنى لا يأخذنا إلى المخاطر، إن لم نستطع أن نحقق الإيجابيات المنشودة. هذه مسؤولية كبيرة وددت اليوم أن أؤكد عليها.
 
في ذكرى الإمام رضوان الله تعالى عليه، لا بد أن أختم بكلمة أخيرة تتعلق بفلسطين، وكل أرض عربية محتلة عام 67 ونحن على أبواب النكسة، هذه النكسة في حزيران 67 أسست لكل هذا الواقع المأساوي المؤلم للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية وثبتت وجود هذا الكيان الغاصب فيما كانت تنتظر شعوبنا العربية جيوشها وأنظمتها وحكامها ومقاوماتها لتتقدم نحو أراضي 48 لتستعيدها فإذا بنا نفقد كل فلسطين والعديد من الأراضي العربية في سوريا، في مصر، في الأردن، وحتى بعض الأجزاء من لبنان.
في هذه الذكرى اليوم، نستحضر انجازاً تاريخياً آخر للإمام الخميني، للولي الفقيه الإمام الخميني الذي أسقط نظام الشاه ونقل إيران بحجمها المتميز إلى محور فلسطين وأعاد التوازن الذي أضاعه العرب بعد كامب ديفيد.
البعض يقول إن الفصائل الفلسطينية أو الشعب الفلسطيني أو فلسطين أخذت إلى إيران، الصحيح أن الإمام الخميني جاء بإيران إلى فلسطين، الإمام الخميني والإمام الخامنئي جاءا بإيران إلى العالم العربي لتكون عوناً وسنداً وداعماً ولتحمل تبعات هذا الموقف وهذا الالتزام.
هذا هو موقف الجمهورية الإسلامية، هذا هو موقف ولاية الفقيه الحكيم الشجاع المدير المدبّر، الواعي الذي يتحمل مسؤولياته الشرعية والأخلاقية والدينية والتاريخية.
ونحن جميعاً، أياً يكن انتماؤنا الديني، كل أدياننا وكل قيمنا الأخلاقية وكل مبادئنا كمسلمين ومسيحيين وكأتباع أديان أو وطنيين أو علمانيين أو أياً يكن، من موقعنا الانساني يجب أن نبقى جميعاً إلى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم والمضطهد والمهجّر. وهذه القضية يجب أن تبقى قضيتنا المركزية كشعوب وكأمة، ويجب أن نبذل الجهد وأن نقدم المساعدة ليعود هذا الشعب المظلوم إلى أرضه، إلى قراه، إلى دياره، إلى مقدساته، وخصوصاً أن هذا الشعب يملك إرادة العودة وتصميم العودة، كما أن مضي السنين وظلم القريب والبعيد والحرمان والآلام لم تنل من إرادة هذا الشعب ولا من أجياله الشابة التي عبّرت عن هذه الإرادة قبل أيام في مارون الراس وفي مجدل شمس عندما عرّض شباب فلسطيني فتي صدره العاري لرصاص الجنود الجبناء المحتلين.
إنني هنا أخص بالتحية عوائل الشهداء الذين يشاركوننا احتفالنا هذا، وأقول لهم : إن دماء أبنائكم وفتيانكم عند الحدود في مارون الراس وعند الحدود في الجولان لم تذهب هدراً ولن تذهب هدراً، هذه دماء سفكت من أجل إحياء أمر عظيم وقضية مقدسة، من أجل أن تعيد تذكير العالم بشعب مظلوم وحق مسلوب وقضية يراهن عليكم أن تنسوها وأن تضيعوها. ولطالما في التاريخ قدّم أنبياء أنفسهم شهداء من أجل إحياء أمر. كربلاء كانت لإحياء أمر وليس لتحقيق انجاز عسكري مباشر، في مارون الراس وفي مجدل شمس شبه من كربلاء الحسين ابن رسول الله (ص)، عندما يتقدم القلة مستعدين للموت من أجل أن يذكّروا العالم بحق مسلوب.
 
في ذكرى الإمام ورحيل الإمام نحتاج دائماً إلى العودة إليه، إلى حضنه الدافئ، إلى روحه الأبوية العظيمة، نستلهم فكره ونهجه وسيرته العطرة ونجدد معه العهد، وخليفته، على مواصلة الدرب في هداه الذي لن يكون في آخره إلا النصر والعزة والكرامة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
المصدر: موقع قناة المنار
 

اترك تعلیق

آخر الاخبار