على الرغم من التأكيدات الأمريكية المتكررة على أن وتيرة المعارك التي يخوضها الجنود الأمريكيون في العراق قد تراجعت بشدة خلال العامين الماضيين، إلا مع وتيرة عمليات الانتحار في صفوف الجنود العائدين من العراق مازالت تشهد ارتفاعا مطردا، وهو ما دفع الكثيرُ من وسائل الإعلام ومراكز الدراسات الأمريكية إلى دق ناقوس الخطر من التأثيرات المدمرة للضغوط والمشكلات النفسية التي يعاني منها هؤلاء الجنود، فيما دعا مسئول عسكري كبير إدارة الرئيس أوباما والكونجرس إلى معالجة المشكلة، التي وصفها بأنها مشكلة أُمَّة.
صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية أشارت في افتتاحية نشرتها مؤخرا بعنوان "ارتفاع لا يُطاق في معدَّلات انتحار الجنود" إلى أنه جرى الشهرَ الماضي استدعاءٌ كامل للفرقة العسكرية في قاعدة "فورت كامبل" للوقوف على أسباب تزايد معدلات الانتحار في صفوف الجنود والاستماع لمحاضرة بهذا الخصوص بعدما شهِدتْ القاعدة ارتفاعا في معدَّلاتِ الانتحار بشكل كبير، ما دفع أحد جنرالات الجيش الأمريكي للدعوة في محاضرته أمام آلاف الحضور من العسكريين إلى عدم "القضاء على مستقبلهم" بإزهاق أرواحهم، وذلك في ظل انتحار 14 جنديًّا في النصف الأول من السَّنة الحاليَّة فقط ، مما يُنذِر بخطر تزايد حالات الانتحار.
"تحدي مؤلم"
رئيس هيئة الأركان المشتركة الأدميرال مايك مولن أكَّد على أن التحدِّي المؤلمَ الذي يعكس الحالة المُزرِية التي تواجِه القواتِ المسلحةَ يصل إلى ما هو أبعد من قاعدة فورت كامبل بكثير. وتوقَّع مولن أن تزيد حصيلةُ المنتحرين هذا العام عنها عام 2008، حيث كانت القوات الأمريكية قد شهدت 133 حالة انتحار، وهو ضِعفُ العدد تقريبًا مقارنة بحالات الانتحار عام 2004 قبل أن يتحوَّل كلٌّ من العراق وأفغانستان إلى مستنقعٍ للعنف المتزايد.
وأوضح الأدميرال أن واحدًا من كلِّ خمسة جنود يعاني أعراضَ الاكتئاب أو الصدمةَ والاضطراباتِ، مضيفًا أنَّ نصفهم فقط يسعَوْنَ للعلاج، والباقون يترددون في طلب المساعدة في ظل خشيتهم من فقدان وظائفهم. ودعا الأدميرال مولن إدارة الرئيس أوباما والكونجرس إلى الانتباه إلى خطورة تلك المشكلة ومعالجتها على وجه السرعة، واقترح أن يتمَّ ذلك عن طريق البرامج الإرشادية والتعليمية ومساعدة المتطوعين المتخصصين.
"إجرام متزايد"
وفي جانب أخر للأزمة كشفت مراكز الدراسات الأمريكية أن 121 من الجنود الأمريكيين العائدين من أفغانستان والعراق ارتكبوا جرائم قتلٍ بعد عودتهم بزيادة قدرها 90% عن الجرائم التي يرتكبها جنود ما يزالون في الخدمة وأن 25% من هؤلاء وُجِّهَت إليهم تُهَمُ القتل دهسًا بسبب قيادتهم سياراتهم وهم مخمورون أو بشكل طائش أو بنيَّةٍ مبيتةٍ للانتحار، ما دفع الكثير من المراكز والمؤسسات الطبيَّة والنفسيَّة إلى البحث عن وسائل للعلاج والتخفيفِ من الدوافع والصدمَات التي تدفع بالجنود إلى الانتحار.
ولعلَّ العلاج المضحك الذي اعتمدته وزارة الجيش للحد من هذه الظاهرة هو إرسال كلبين – بحسب منظمة "فيتدوغس" - من نوع لابرادور" اسمهما "بو" و"بادج" إلى الوحدة الطبيَّة الخامسة والثمانين للجيش في العراق لمساعدة الجنود هناك على معالجة الضغط العصبي والصدمات التي يمكن أن يتعرضوا لها, خاصة بعدما تعرضت الكثير من الصيدليات في العراق للاقتحام على يد جنود الاحتلال خلال فترات حظر التجول، حيث قاموا بالاستيلاء على الحبوب والأقراص المهدئة والمضادات الحيويَّة الخاصة بمعالجة أمراض الاكتئاب والحالات النفسية، ومن بين هذه الصيدليات 6 في جانب الرصافة و14 في جانب الكرخ من العاصمة بغداد، لكنَّ القواتِ الأمريكيةَ رفضت الاعتراف بذلك.
مسئول عسكري أمريكي بارز أشار إلى أن "الإجهاد والضغوط" التي تتعرَّض لها القوات جرَّاء عمليات الانتشار المتعددة والمتكررة مسئولة- جزئيا- عن ارتفاع معدلات الانتحار بين الجنود. وقال الجنرال بيتر شياريلي، نائب رئيس هيئة الأركان للجيش الأمريكي، خلال جلسة استماع أمام اللجنة الفرعية لـ"لجنة الخدمات المسلحة" بمجلس الشيوخ: أعتقد أن الآثار التراكمية لعمليات الانتشار التي تمتد من 12 إلى 15 شهرًا هي سبب مؤثر في ارتفاع نسب الانتحار.
واستشهد شياريلي بعمليات الانتشار المتكررة، والابتعاد لفترات طويلة عن الأسرة، ما يحول دون طلب المساعدة النفسيَّة، كعوامل مساهمة في إقدام الجنود على الانتحار.
"صفعة الجيش"
بدوره قال الجنرال جيمس إف آموس، نائب قائد العمليات بالبحرية الأمريكية: إن الانتحار يقف في المرتبة الثالثة بين مسببات الوفاة بين أفراد الجيش. وشدَّد على أهمية تحجيم وتغيير المفاهيم السائدة بشأن العار والخزي والخجل من طلب المساعدة. بينما لفت السيناتور لينسدي غراهام إلى أن معدلات الانتحار بين العسكريين فاقت نسبةَ انتحارِ المدنيِّين، لأول مرة, مشيرا إلى أن الجيش الأمريكي رفض في أواخر العام الماضي تقديم مساعدات عاجلة لمجموعة من جنوده الذين يعانون ضغطًا نفسيًّا، جراءَ خدمتهم العسكرية في العراق وأفغانستان، مما دفعهم إلى رفع دعوى قضائية ضد الجيش تطالبه بدفع تعويضاتٍ عن الضَّرر الذي حلَّ بهم.
وتتَّهمُ الدعوى الجيشَ الأمريكي بقطع جميع المساعدات عن آلافٍ الجنود الأمريكيين وعائلاتهم، بعد تأكيد إصابتهم بأضرار نفسيَّة، وَفقَ ما أكَّدته التقارير الطبيَّة. وفي ذات السياق، قطَعَ الجيش الأمريكي كافَّةَ المساعدات والتي تتضمن راتبًا مدى الحياة للتعويض عن الإصابات، وتأمينًا صحيًّا للجنود وعائلاتهم, وقال خوان بيريز، جندي أمريكي: "لقد عشت ويلاتِ الحرب، وكانت توقُّعاتي كبيرة في أن يساندني الجيش والبلد، إلا أن الأسلوب الذي استخدمه الجيش معنا كان كالصفعة على وجوهنا".
وتشير الإحصاءات إلى أن معدل انتحار القوات الأمريكية في العراق وصل إلى 17.3 لكل مائة ألفٍ في السنة، وهو أعلى من المعدل العام للجيش الأمريكي الذي يبلغ 11.9 لكل مائة ألف بين عامي 1995-2002. منظمة "أطباء من أجل مسئولية اجتماعية" الأمريكية أعدَّت تقريرًا بعنوان "الصدمة والرعب يضربان الوطن" قالت فيه إن إجماليَّ تكلفة علاج الجنود المشاركين في حرب العراق سوف تفوق الإنفاق على العمليات الحربيَّة هناك؛ لأن الكثير منهم مصاب بأمراض نفسية واكتئاب نتيجة لأفعالهم الإجرامية التي ارتكبوها في العراق وأفغانستان والتي تدفعهم إلى الانتحار.