أعرب السيناتور الجمهوري الامريكي جون ماكين , عن عدم رضاه عن الانسحاب الامريكي من العراق واصفا اياه بأنه قد جرى بوقت مبكر لان العراق لم يستكمل بناء قدراته العسكرية بعد , وتتناقض تصريحات هذا السيناتور مع مواقفه الممانعة لاحتلال العراق سنة 2003 حيث كان من اكبر المعارضين على الرغم انه من الجمهوريين , ويبدو ان مواقفه تغيرت مرة اخرى اثناء زيارته الاخيرة للعراق قبل ايام , فبعد ان جاء لكي يتبنى موضوع تسليح العشائر في المناطق الغربية لكي يضمن بقائهم وتماسكهم في حالة سقوط بغداد عند اجتياحها من قبل الكيان الداعشي الاجرامي, فقد انقلبت مواقفه بالكامل وسر تغير مواقفه الاخيرة ما شهده من انتصارات حققتها فصائل المقاومة الاسلامية والمتطوعين بالتنسيق مع القوات المسلحة في عدة مناطق ومنها شمال بغداد وجنوبه وغربه وشمال صلاح الدين وتحرير مطار تلعفر, فقد فهم بان من يساهم في تحقيق الانتصارات هم مقاتلي الفصائل المجاهدة التي كان لها الدور الفاعل في محاربة المحتل وإخراجه مرغما من العراق , ويبدو ان ماكين استخدم رجاحة العقل في هذه المرة عندما ادرك ان ذهابه الى بلده وحث الكونغرس الامريكي على اعطاء التفويض للرئيس الامريكي في التدخل البري في العراق , ستوقع القوات الامريكية في الحظيظ , فالفصائل المجاهدة التي اذاقت الجيش الامريكي طعم الذل وأسقطت منهم العديد بين قتيل وجريح قد تنامت قدراتها القتالية وأصبحت تمتلك زمام المبادرة في الحاق اكبر الخسائر بالدواعش الانذال , وهو يدرك تماما قوة ومنعة وشدة افراد المجاهدين في المقاومة حيث كانت اخبارهم تتداول في اروقة صناعة القرار الامريكي , وقبل انتهاء زيارته الاخيرة للعراق أعترف ماكين بقدرة العراقيين على تحرير كامل اراضيهم و (استثنى ) الجزء الغربي من العراق , حيث قال انه يحتاج الى مزيد من التعاون من سكان المنطقة لغرض اخراج آخر ارهابي لكي ينعم البلد بالاستقرار والأمن من جديد .
لقد استشهدت بهذه الحادثة ونحن نمر هذه الايام بمرور ثلاثة اعوام على الانسحاب الامريكي من العراق , ورغم ان الانسحاب قد تم بغطاء اتفاقية الاطار الاستراتيجي الموقعة بين جمهورية العراق والولايات المتحدة الامريكية عام 2009 , إلا انه انسحابا جاء من باب الاضطرار ولحفظ ماء الوجه , فهذه الاتفاقية هي من أسوأ الاتفاقيات التي وقعتها امريكا منذ نشأتها الحديثة ولحد اليوم , فقد أملى عليها المفاوض العراقي شروط قاسية , اولها تحديد موعد محدد للانسحاب ويكون على الولايات المتحدة الامريكية الالتزام به بشكل دقيق , وثانيها عدم اعطاء الحصانة القانونية لأية قوات عسكرية تتواجد في العراق بعد الانسحاب , وثالثها ان تتعهد امريكا بتقديم الدعم اللازم للعراق لغرض مكافحة الارهاب وتدريب القوات المسلحة , وقد استغرب العالم جميعا عن السر الذي يقف وراء الاذعان الامريكي لمثل هذا الاتفاق رغم ما عرف عن امريكا من عنجهية وتكبر في توقيع اتفاقياتها العسكرية وغير العسكرية مع الدول الاخرى , وتسائل البعض كيف توقع امريكا مثل هذه الاتفاقية الضعيفة وهي من تولت احتلال العراق بقرار من مجلس الامن الدولي , والبعض اعتبر امريكا صاحبة الفضل على العراق والعراقيين في تخليصهم من النظام البائد فهي دخلت بشعار التحرير , وكان من الأولى ان تفرض شروطها على العراق عند خروجها منه ويفترض ان تخرج منه مرفوعة الرأس فماذا حصل وخرجت امريكا قبل موعد الانسحاب خلسة وعلى مراحل وبطريقة سرية ومتكتمة بحيث انها اضطرت ان يكون انسحابها جزءا منه مباشر للولايات المتحدة والآخر بمراحل الى قواعدها داخل وخارج الخليج , وقد مثل الانسحاب الامريكي بالطريقة التي وصفناها سرا من الاسرار التي لم تبوح بها امريكا , وبعض المعنيين لم يوجهوا اسئلة بخصوص الموضوع لكي لا يحرجوا الادارة الامريكية في اسباب انسحابها وطريقة الانسحاب وموعده , كما ان الجهات الامريكية المعنية لم تعطي تفسيرات واقعية عن الموضوع .
ولغرض تذكير العراقيين وتعريف العالم بحقيقة اسباب وظروف الانسحاب الامريكي , سنعرض الاسباب وظروف الانسحاب وما رافق توقيع اتفاقية الاطار الاستراتيجي بوقائعها الفعلية , وبدءا لا بد من الاعتراف بأنه كان هناك رأيان سائدان للتخلص من النظام الصدامي , احدهما يرجح كفة الاعتماد على الامكانيات الداخلية لمقارعة النظام والأخرى توافق على الخدمات المجانية الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة للمساعدة في هذه الموضوع دون اعطاء اية ضمانات بحيث تنتهي المهمة بالتخلص من النظام , ولوجود قاسم مشترك بين الاثنين فقد تم الاتفاق على قبول المساعدة الخارجية على ان لا تخرج عن اهدافها وحدودها , وفي حالة حصول عكس ذلك فان من حق المقاومين ان يتعاملوا مع الاجنبي كمحتل من خلال مقارعته بالوسائل الكفيلة لإخراجه , وبعد ان تم القضاء على النظام وإصدار الرئيس الامريكي جورج بوش الابن قرارا بانتهاء العمليات العسكرية في العراق , فقد توقع المجاهدون بان يبدأ الانسحاب وتسلم زمام الامور الى المعارضة الوطنية التي قدمت مختلف التضحيات لتخليص الشعب من البعث الصدامي , ولكن ما حصل هو استبدال الحاكم العسكري ( جي كارنر ) بالحاكم المدني ( بول بريمر ) , وراح الاخير يسعى لتأسيس حكم مدني في العراق قائم على المصالح الامريكية على حساب الشعب العراقي المستضعف , وهو من شانه ان ينشا وضعا اقليميا غير مستقر لان امريكا تحابي البعض على حساب حقوق ومصالح البعض الاخر , وقد تم ارسال اشارات للجانب الامريكي للالتزام بوعودها وعدم السعي للبقاء في العراق , إلا ان صدى هذه الرسالة لم يكن ايجابيا , ولذلك وجدت فصائل المقاومة الاسلامية التي قامت على اساس محاربة المحتل ايا كانت هويته انها امام واجب شرعي في التصدي للمحتلين عسكريا بعد ان تم استنفاذ الوسائل السلمية .
وكانت كتائب حزب الله المجاهدة في مقدمة المقاومين وصاحبة المبادرة الاولى , وإقامة مقاومتها على اساس الحاق الضربات بالقوات الامريكية لإشعارها بعدم رغبة العراقيين في بقائهم بأي شكل من الاشكال , مع الحرص كل الحرص على تجنب ايقاع الاذى بغير القوات المحتلة , والحيلولة دون تنفيذ اية عملية من شانها الحاق الاذى بالعراقيين حتى وان اضطر الامر لتأجيل تنفيذ مواعيد وأماكن تنفيذ العمليات الجهادية , او اعطاء الشهداء من مقاتلي المقاومة بدلا من المدنيين , ويعد تأريخ 23-10- 2003 الانطلاقة الموفقة الاولى لرجال كان لهم شرف أوّل عبوة توجه نحو جنود الاحتلال الأميركي بعد غزو العراق , وتم تجهيز العملية الناجحة الاولى بالاعتماد على كفاءة شباب المقاومة في الجانب الفني على الصعيدين الميكانيكي والالكتروني , وتم التجهيز للعملية ميدانيا من خلال رصد إحدى الدوريات التابعة للإحلال في البلديات - بغداد , وتم زرع العبوة ليلا في حين تم استهداف تلك الدورية صباحا في تمام الساعة الحادية عشر تقريبا وتم تدمير الآلية بالكامل وقتل جميع من فيها , وتوالت العمليات العسكرية في استهداف القوات الامريكية , وقد نشأت مشكلة مهمة وهي قيام اعوان الاحتلال الامريكي والمستفيدون من وجوده بخلق حالة فوضوية لغرض الاساءة الى المقاومة وتشويه صورتها الحقيقة , من خلال الجمع بين الارهاب والمقاومة ومحاولة خلط الاوراق , وقد استطاع المجاهدون من تخطي هذه الصعوبات من خلال التعريف بنفسها والتعريف بعملياتها الجهادية , لكي يتمكن الشرفاء من التمييز بين الفعل المقاوم الذي يدخل في باب الجهاد والإرهاب اللعين الذي يمارسه الخونة والعملاء وبقايا النظام البائد لقتل العراقيين الابرياء .
ان ما ساعد المجاهدون في كتائب حزب الله في استمرار جهادهم وإذاقة الامريكان طعم المرارة والذل وإجبارهم على الانسحاب من العراق ومنع وقوعهم بالزلل ومواجهة الصعاب كافة وتقديم مختلف التضحيات , هو تجسيدهم للثقافة الجهادية التي تربوا عليها، والتزامهم بها بكل ما تحتويه من معاني مقدسة مستلهمة من كتاب الله الكريم وسنة نبيه المصطفى ( ص ) وآل بيته الاطهار ( ع ) , وهي التي ميزتهم وجعلت لهم هوية معروفة في كل الارجاء وينالون القدر الذي يستحقونه من الاحترام ويحققون اهدافهم في النصر على الاعداء , وهم في حياتهم الاعتيادية يعيشون احلامهم فمنهم الاكاديمي والمتخصص والعامل والفلاح والطالب , ورغم تمسكهم بالجهاد فان لهم املا في الحياة ويكون بطعم الشهد ان تكلل بالنصر وبطعم لا يوصف ان انتهى بالشهادة , باعتبارها من افضل الوسائل للتقرب للباري عز وجل , فتحية للأبطال الذين كان لهم ولرفاقهم من فصائل المقاومة الاسلامية الاخرى الفضل في التخلص من الاحتلال الامريكي , وهم المرابطون اليوم في جبهات القتال لكي يعيدوا صنع الحياة من جديد , ويجسدون ثقافتهم العالية من خلال التضحية والفداء بعد ان عاهدوا الله والوطن بان لا داعشي في العراق في القريب العاجل , فقد ضربوا اروع الامثال في قتال الامريكان وفي هذا السفر الخالد اعطوا العديد من الشهداء , وعادوا لقتال الدواعش الانجاس وسيكونوا حاضرين بجهادهم لمقاومة أي احتلال , وتحية لمن استلهموا منه معنى الجهاد بشكله الشرعي .
د . كمال حسين العبيدي