الهيمنة الأمريكية مرتبكة ومنهكة في شرق المتوسط

أصاب الرئيس أحمدي نجاد في وصفه هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية بأنها تشبه "أم العروسة"؛ لا عمل لها فيما يجري من حولها، بينما تظهر وكأنها هي الآمر الناهي!. أو هكذا فهم الرئيس نجاد تدخلاتها الفجة في علاقة بلاده مع سوريا، عندما صرحت يوم الأربعاء الماضي(24/2) أمام لجنة الموازنة بمجلس الشيوخ، بأنها طلبت من سوريا "البدء في الابتعاد عن إيران التي تتسبب في اضطرابات للمنطقة وللولايات المتحدة"، وفي الوقت نفسه تحدثت أيضاً عن أن قلبها ينفطر للحالة المزرية التي آل إليها الاقتصاد الأمريكي، إلى الدرجة التي بات يؤثر سلبياً على المكانة العالمية للولايات المتحدة وأمنها القومي. كلينتون ظهرت فعلاً مثل "أم العروسة" فاضية ومشغولة في آن واحد!
البعض رأى أن تصريحات هيلاري كلينتون الفجة تجاه سوريا وإيران تعبر فقط عن تجاوزها حدود اللياقة الدبلوماسية، وآخرون يرون أن تصريحاتها تكشف عما هو أكثر أهمية من تجاوز "اللياقة الدبلوماسية" وأصول التخاطب في العلاقات الدولية.
في تقديرنا أن ما صرحت به الوزيرة الأمريكية يعبر بوضوح عن أن السياسة الأمريكية، باتت تعاني من "الارتباك" السياسي، و"الإنهاك" الاقتصادي، بشأن قضايا "شرق المتوسط" بشكل عام، وليس فقط تجاه قضية الصراع العربي الإسرائيلي بمساراتها السورية واللبنانية والفلسطينية.
الأدلة على وصول الإدارة الأمريكية إلى حالة "الإنهاك" الاقتصادي أكثر من أن تحصى، ويكفي أن نستعيد ما صرحت به هيلاري أمام لجنة الموازنة بمجلس الشيوخ من أن "قلبها ينفطر" وهي تقول "قبل 10 سنوات، كان لدينا ميزانية متوازنة، وأننا كنا على الطريق لتسديد ديون الولايات المتحدة الأميركية". قالت هذا الكلام في معرض دفاعها عن طلب وزارة الخارجية ميزانية قدرها 52.8 مليار دولار للسنة المالية 2011، وأكدت على أن "الدين الخارجي الهائل لأميركا أضعف قوة الولايات المتحدة حول العالم"، واعتبرت ـ وعندها حق ـ "أن عجز الميزانية مشكلة تمس الأمن القومي الأمريكي".
ولا ينفصل "الارتباك السياسي" عن حالة "الإنهاك الاقتصادي"، وإن كان الارتباك أكثر وضوحاً من الإنهاك، والدليل على ذلك هو فشل الإدارة الأمريكية في معالجة أي من الملفات الشائكة التي تعج بها منطقة شرق المتوسط الممتدة من فلسطين ولبنان، إلى العراق وإيران وأفغانستان. وقد فضحت كلينتون هذا الارتباك بتصريحاتها حول العلاقات السورية الإيرانية قبل يوم واحد من زيارة الرئيس أحمدي نجاد لدمشق واجتماعه مع الرئيس الأسد (الخميس 25/فبراير)، ثم مع قادة المقاومة الفلسطينية واللبنانية، بمن فيهم حسن نصر الله.
قول هيلاري كلينتون، وهي تبرر حاجة وزارتها لـ 52.8 مليار دولار ضمن ميزانية السنة المالية 2011، إنها طلبت من سوريا الابتعاد عن إيران! والتعاون في العراق، ووقف التدخل في لبنان، وعدم نقل أسلحة لحزب الله... إلخ، هذا القول يذكرنا بتصريحات بعض وزراء الخارجية في البلدان العربية، التي تثير الضحك أحياناً، وتبعث على الرثاء والسخرية منها في أغلب الأحيان.
الرد السوري/الإيراني جاء سريعاً على تصريحات كلينتون، بمزيد من التقارب، لا بالابتعاد، وليس فقط باجتماع الرئيسين الأسد ونجاد في دمشق، وإنما أيضاً باتخاذ خطوة عملية تمثلت في "إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين". وأتاحت حماقة الوزيرة الأمريكية للرئيس السوري أن يتهكم من تصريحاتها ذات الصفة الآمرة، فقال في مؤتمر صحفي عقب توقيع اتفاق إلغاء التأشيرات بين سوريا وإيران "نحن التقينا اليوم لنوقع اتفاقية ابتعاد بين سوريا وإيران"، وتابع ضاحكا "لكن بما أننا فهمنا الأمور خطأ، ربما بسبب الترجمة أو محدودية الفهم، فوقعنا اتفاقية إلغاء التأشيرات، لا نعرف أكان هذا يتوافق مع ذاك".
ما يؤكد تفاقم حالة الارتباك السياسي للإدارة الأمريكية أيضاً، أنها تمارس سياسة الإملاءات على سوريا بهذا الشكل الفج ، كي تتمكن من تفكيك محور الممانعة، وضرب الروابط الإقليمية للمقاومة في لبنان(حزب الله) وفي فلسطين (حماس والجهاد). وعلى فرض أن الابتعاد عن إيران قابل للنقاش من الجانب السوري، فإن السؤال البسيط هنا هو: ما الذي يغري سوريا بالاستجابة لهذا الطلب الأمريكي؟. الأمريكيون تصوروا أن إعلانهم تعيين سفير لهم في دمشق وإعادة فتح السفارة بعد قطيعة خمس سنوات، إلى جانب عدة زيارات يقوم بها بعض موظفي وزارة الخارجية لدمشق ـ مثل زيارة وليم بيرنز مساعد وزيرة الخارجية ـ كفيلة بإقناع سوريا بالبدء في الابتعاد عن إيران التي تربطها بها علاقات إستراتيجية عمرها أكثر من ثلاثين عاماً.
اعتقد الأمريكان أيضاً أن التلويح لسوريا بأنهم على استعداد لجلب "إسرائيل" إلى مائدة المفاوضات، يشكل إغراءً كافياً لتليين المواقف السورية، ولكن هذا الاعتقاد لا يدل إلا على عمق حالة الارتباك السياسي الذي تعانيه الإدارة الأمريكية هذه الأيام. فمن ناحية، لا تجد سوريا نفسها في عجلة من أمرها لاستئناف المفاوضات، وخاصة أنه لا توجد ضغوط داخلية على النظام السوري في هذا الاتجاه، بل إن الجولان صامت دون مقاومة مسلحة للاحتلال الإسرائيلي منذ 43 عاما، فلا الوقت، ولا الضغط الشعبي يدفعان سوريا للتعجل. بعكس الإدارة الأمريكية التي تحاول تدارك الوقت كي تفي ولو ببعض وعودها البراقة التي سوقتها في بداية عهدها، لمواطنيها أولاً، ولشعوب المنطقة والعالم ثانياً، بشأن قدرتها على التوصل لحل سلمي للصراع في المنطقة، وتحقيق ما فشلت فيه إدارة بوش السابقة. ومن ناحية ثانية، وهذا هو الأهم، لا تجد سوريا نفسها مضطرة لأن تحقق إنجازاً من النوع الذي يطرحه الأمريكان وهو "استئناف مفاوضات"، من المؤكد أنها ستكون غير مضمونة النتيجة في ظل حكومة اليمين المتطرف في "إسرائيل"، في حين أن الثمن المطلوب من سوريا دفعه هو التضحية بعلاقاتها الإستراتيجية المستقرة مع إيران منذ ثلاثين عاماً.
هناك دليل آخر على حالة الارتباك في السياسة الأمريكية التي كشفت عنها تحركاتها خلال الأيام الأخيرة بشأن رغبتها في أن تبتعد سوريا عن إيران، وهو سوء تقديرها للموقف التفاوضي لسوريا في الظروف الراهنة. إذ يبدو أن إدارة أوباما توصلت إلى أن ضغطها المتواصل على إيران بشأن ملفها النووي، وسعيها هذه الأيام لتشديد العقوبات المفروضة عليها من خلال استصدار قرار جديد من مجلس الأمن، سيضعف الحليف الإيراني لسوريا، ومن ثم يشعر السوريون بأن موقفهم التفاوضي آخذ في التدهور والضعف، وأن عليهم المسارعة إلى القفز من عربة محور الممانعة، والابتعاد عن كل ركابها، وليس فقط عن إيران التي تتصدر قيادة هذه العربة. وهذه الحالة تعني ـ حسب هذا التحليل من وجهة النظر الأمريكية ـ أن سوريا باتت أكثر قابلية للاستجابة لمطالبها، حتى ولو كانت في صورة إملاءات فجة كالتي عبرت عنها هيلاري كلينتون.
ولكن قراءة الأحداث والوقائع التي جرت خلال الأعوام القليلة الماضية تؤكد بوضوح على أن الموقف التفاوضي لسوريا بات أكثر قوة مما كان عليه عندما توقفت المفاوضات المباشرة سنة 2000؛ أي قبل عشر سنوات، وأكثر قوة أيضاً مما كانت عليه نهاية عام 2008 في المفاوضات غير المباشرة عبر الوسيط التركي، قبل أن تتوقف هي الأخرى بسبب العدوان الإسرائيلي الإجرامي على قطاع غزة.
في عام 2000 كانت سوريا تعاني درجة أكبر من العزلة، وخصوصاً من جهة علاقاتها مع تركيا، أما اليوم فالعلاقات السورية التركية وصلت إلى ذروة التعاون، بإلغاء التأشيرات بين البلدين، وإجراء بعض التدريبات العسكرية المشتركة على الحدود بين البلدين، وتشكيل مجلس للتعاون الاستراتيجي بينهما.
وفي عام 2000 أيضاً لم تكن المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، ولا الفلسطينية بقيادة حماس قد أثبتت جدارتها في التصدي للهيمنة الإسرائيلية، ولم تكن قد أحرزت نجاحاً محدداً في المواجهات المفتوحة مع العدو الإسرائيلي، أما اليوم فقد أثبتت المواجهات التي خاضتها المقاومة اللبنانية والفلسطينية صوابية خط المقاومة، فقد انتصرت المقاومة وحررت جنوب لبنان، وانتصرت مرة أخرى في يونيو 2006، وانتصرت مرة ثالثة في غزة مطلع العام 2009، واكتسبت فكرة المقاومة عمقاً شعبياً واجتماعياً أعمق مما كانت عليه، رغم التضحيات الهائلة التي قدمتها.
  قراءة هذه الحقائق المتعددة تؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي أن سوريا تجد نفسها اليوم في موقف تفاوضي أفضل بكثير مما كانت عليه في السابق، ومن ثم فإنها ستكون أكثر استعصاءً على الإغراءات الأمريكية من ذي قبل، وخاصة أن الأمريكان على الجانب الآخر منهكون اقتصادياً ومرتبكون سياسياً في التعامل مع قضايا المنطقة برمتها، إلى جانب أنهم لم يقدموا لسوريا شيئاً مغرياً، عدا ممارسة سياسة الغطرسة والإملاءات، على النحو الذي عبرت عنه تصريحات كلينتون!
"الارتباك" و"الإنهاك" ليسا حديثَيْ الولادة في السياسة الأمريكية تجاه قضايا "شرق المتوسط"؛ ولا ينسبان فقط إلى إدارة الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته؛ بل هما موروثان من الإدارات السابقة، وبخاصة إدارة جورج بوش الابن، التي ارتكبت سلسلة من الأخطاء الفادحة، بدءاً باحتلال كل من أفغانستان والعراق، مروراً بالفشل في التصدي للمقاومة في البلدين، والفشل في التعامل مع إيران، إلى جانب الاستمرار في الانحياز الأعمى للكيان الصهيوني واعتداءاته المتكررة على الفلسطينيين واللبنانيين.
"كلما زاد خط المقاومة ثباتاً، زاد خط الهيمنة ارتباكاً وإنهاكاً"، وأضحت السياسة الأمريكية "أم العروسة" أكثر حيرة. هذا هو الدرس الأكبر الذي تكشف لنا عنه التحركات الدبلوماسية والسياسية التي شهدتها المنطقة مؤخراً. 

 

د. إبراهيم البيومي غانم
 

اترك تعلیق

آخر الاخبار