سواء كان النفط نعمة أم نقمة فإنه حكم العالم لقرن ونيّف من الزمان، وهناك من قال: في بداية القرن العشرين: من يمتلك النفط يسيطر على العالم؛ لأنه سيتمكّن من تشغيل العربات وتزويد الطائرات بالوقود، وبالتالي ستكون هذه الطاقة الحيوية لجانبه في الحرب وفي السلم، الأمر الذي سيهيمن فيه على العالم، ولكن الغاز هذه المرّة هو الذي سيحدّد مستقبل الكثير من الصراعات في العالم، وحسب خبراء الطاقة فإن أهميته ستتقدّم بحلول العام 2030 ليصبح «الطاقة رقم – 1» في العالم. ويعود جزء من الصراع في المنطقة إلى مصادر الطاقة، ومن يستطيع التحكّم بها ووضع اليد عليها، وخصوصاً المستقبلية، ولا شكّ أن بعض مستجدات التفاهم الروسي- الأمريكي، الذي سيعيد تكييف العلاقات الروسية – الأمريكية على نحو جديد، سوف لا تكون هذه المرّة عبر الحرب الباردة التي طبعت علاقاتهما طيلة أربعة عقود ونيّف والزمان (بين الأعوام 1947-1989) وما قبلها بسبب الصراع الآيديولوجي منذ ثورة أكتوبر الاشتراكية العام 1917، وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي السابق ونظامه الاشتراكي، بل ستأخذ شكلاً جديداً باحتساب التوافقات والتفاهمات بما فيها عامل الطاقة، ولا سيّما الغاز. وإذا كان الشرق الأوسط سبباً من أسباب الصراع الروسي- الأمريكي، الذي اعتقد البعض أنه حرب باردة جديدة، ولا سيّما في الفترة الأخيرة بسبب الأزمة السورية بشكل خاص، فإنه في الوقت نفسه قد يكون سبباً في إيجاد تفاهمات جديدة سيكون الغاز أحد محركاتها الأساسية. مثلما شهدت العلاقات الروسية- الأمريكية في الماضي حرباً باردة محمومة وسباقاً للتسلح لا نظير لها، كانت خاتمتها «حرب النجوم» التي كلّفت واشنطن أكثر من تريليوني دولار أمريكي، فإنها في الوقت نفسه عرفت توافقات واتفاقيات وتفاهمات كثيرة، وضع أسسها اتفاق يالطا العام 1943 واتفاقيات نزع السلاح (سالت 1 وسالت2) والقمم الأمريكية- السوفييتية. وقد شهدت العلاقة بين العملاقين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي هي الأخرى توترات وشدّ وجذب بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، وإن كانت طبيعتها تختلف عن الصراع الآيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية، من نصب صواريخ باليستية على مقربة من روسيا، ولاسيّما في تشيكوسلوفاكيا وبولونيا، إلى مشكلة كوسوفو في أوروبا، إلى احتلال العراق، وأخيراً أزمات ما بعد الربيع العربي وخصوصاً «التدخل العسكري» في ليبيا وفيما بعد المسألة السورية المحتدمة منذ 15 آذار(مارس) العام 2011 وإلى الآن، والتي لعب الفيتو الروسي ومعه الصيني دوراً في منع فرض إجراءات عقابية رادعة ضد سوريا. قد يتصوّر البعض أن التفاهم الجديد بسبب تدمير الأسلحة الكيمياوية السورية الذي كان لروسيا دور كبير فيه، أو أنه بسبب التقارب الأمريكي- الإيراني، ولكن ذلك لا يحتاج إلى أن تغامر روسيا وترمي بثقلها في العاصفة السورية، لولا وجود ما يستحق ذلك، ولعلّ استحقاقاً مثل الغاز قد يكون الثمن المناسب الذي يحتاج إلى تفاهمات استراتيجية وليست عابرة، أي تفاهمات، جيوبوليتيكية ونوعية بين البلدين، فالدولتان أصبحتا اليوم عملاقين ضخمين في إنتاج النفط والغاز، ويحتاج كل منهما إلى التنسيق والتعاون لضمان مصالحهما الاقتصادية والحيوية. لقد تمكّنت واشنطن مؤخراً من معرفة جزء من مخزونها الضخم من الغاز، ولاسيّما في نهاية عهد الرئيس بوش الابن، ولعلّ هذا كان وراء مسارعتها بالانسحاب من العراق والزعم بأنها جاءت للقضاء على الدكتاتورية وإن حربها كانت من أجل الحرية والديمقراطية والقيم الجديدة في العراق وليس من أجل النفط، وإن كان موضوع التدخل الإنساني وتأمين احترام حقوق الإنسان أو الملاحقة على الجرائم ضد الإنسانية يثير مفارقات دولية، أساسها المعايير المزدوجة والسياسات ذات الطبيعة الانتقائية بما فيها ما يتعلق بالارهاب الدولي. وهي تزعم اليوم، الأمر ذاته بخصوص سوريا، ولعل هذا ما دعا الرئيس باراك أوباما إلى تأكيد الدفاع عن «قيمنا الحضارية الإنسانية التي تمثل الأمة الأمريكية»، والتي تحتاج إلى جهود استثنائية لمعالجة ذلك. ولكن واقع الحال يكشف جوهر التردد الأمريكي في توجيه ضربة عسكرية لسوريا أو في استبعاد المشاركة بقوات برّية، هو ما واجهته في العراق وما أعقبه من انهيار مالي واقتصادي، خصوصاً وأن الأزمة الطاحنة التي عصفت بمصارفها وشركاتها التأمينية الكبرى، لا تزال آثارها مستمرة ولم تتعافى منها بعد، ويضاف إلى ذلك اكتشاف هذه الكمية الهائلة من الغاز لديها، حيث أكد أوباما أن فكرة الحرب (على سوريا) بعد ما حصل في كل من أفغانستان والعراق لم تعد مرغوبة بين الأمريكيين. وروسيا كانت تريد ضمان مصالحها عبر منع مرور أنابيب النفط والغاز إلى سوريا من قطر وصولاً إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، ولعلّ أمراً من هذا لو حدث، فإنه كان سيساهم في تحطيم احتكار روسيا لمبيعات الغاز التي تؤلف ثروة طائلة من السوق الأوروبية. ومثل هذا الموضوع بالذات هو الذي سيسهم في تحقيق الصفقة التاريخية في العلاقات الروسية – الأمريكية، وهذا ما يفسّر المواقف الروسية والأمريكية معاً إزاء سورية، وهو ما يشغل بعض المراقبين للمسألة السورية، ولا سيّما مواقف القوتين العظميين، وليس هذا فحسب، بل إنه يمتد إلى إيران، حيث لم يعد النفط الخليجي هو المعادل الموضوعي وحده لضمان الأمن الخليجي، وكما جرت الإشارة فإنه ساهم في الانسحاب الأمريكي من العراق، الذي كلّف واشنطن غالياً، على الرغم من تغطية بعض نفقاتها عربياً. قد تكون أوروبا الخاسر الأول من صفقة النفط والغاز الروسية- الأمريكية إذا افترضنا حصول الصين على حصتها، وكان انسحاب قطر من المعركة مع سوريا وتوقّف حرب أنابيب الغاز بين روسيا وقطر، جزء من التفاهم الأمريكي- الروسي، مثلما كان التقارب الإيراني – الأمريكي يمثل جزءًا آخر، فإيران لا تزال تصدّر النفط إلى الصين والهند على الرغم من العقوبات الأمريكية والأوروبية. ولمعرفة دور الغاز في الصراعات والمصالح الدولية، لابد من تبيان أن روسيا تمدّ أوروبا بـ 25% من احتياجاتها من الغاز، وإنْ كانت الأخيرة تسعى للحصول على النفط والغاز من آسيا الوسطى من خلال خط نابوكو، ليكون الغاز الأذري هو المنافس للغاز الروسي في أوروبا الوسطى والشرقية مع خطط لإيصاله إلى إيطاليا، ويحاول الاتحاد الأوروبي إقناع تركمانستان وكازاخستان بالانضمام إلى خط نابوكو، وهو خط غربي يبدأ من باكو ويمرّ في تبليسي وصولاً إلى أرضروم، ولهذا كانت روسيا متنبّهة بل ومستنفرة لذلك، لا سيّما لمواجهة الالتفاف الأوروبي على كازاخستان، والسيطرة شبه الكاملة على غاز تركمانستان عبر شركة غاز بروم عبر خط أنابيب مشترك، حيث تقوم روسيا بتصدير الغاز التركماني إلى أوروبا عبر خطوط الغاز الروسية، وهناك مشروع لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا الوسطى عبر البحر الأسود وبلغاريا فصربيا والمجر والنمسا وسلوفينيا، وذلك من مدينة نوفوروسيك الروسية على البحر الأسود. أما الخط الثاني فهو يتوجّه عبر اليونان إلى جنوب إيطاليا، وكذلك من مدينة نوفوروسيك إلى ميناء سمسون التركي، ثم إلى أنقره وهناك مشروع انتركونكتور الهادف إلى تزويد إيطاليا واليونان بالغاز الأذري ومشروع خط الأنابيب العابر للبحر الادرياتيكي لتزويد بعض دول أوروبا الوسطى وأيطاليا وسويسرا بالغاز الأذري ويستمر الأنبوب عبر تركيا وألبانيا ومقدونيا، ثم جزء منه إلى سويسرا والآخر إلى شرق إيطاليا عبر البحر الادرياتيكي. إن موازين القوى الأمريكية- الروسية تتجه اليوم وبسبب الغاز إلى تفاهمات نوعية وعلاقات جيوسياسية استراتيجية متخطّية مرحلة الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي السابقة، ومتوجهة لتجاوز فترة التوترات والاحتدامات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لا سيّما الصراع بين رأسمالية روسية صاعدة ومتطلعة لدور إقليمي ودولي تعويضي، وخصوصاً اقتصادي ومالي، وبين رأسمالية كبرى مهيمنة اقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً وعسكرياً وثقافياً، ولعلّ الغاز سيكون عنصر التقارب المهم، خصوصاً إذا ارتبط بحلول سياسية للأزمة السورية وترتيبات إقليمية تنعكس على العلاقات الثنائية بين العملاقين.
د. عبد الحسين شعبان