الكاتب: ناصر قنديل
عندما قدّمت واشنطن مشروعها لحرب «إسرائيلية» تعيد تشكيل لبنان وعبره موقع سورية عام 1982، لم يكن حزب الله قد ولد بعد، لكنها كانت قد أطلقت حرب العراق على إيران قبل عامين، وحرب الإخوان المسلمين على سورية قبل ثلاثة أعوام، وأطلقت بالتعاون مع السعودية حرب تنظيم القاعدة على الجيش السوفياتي في أفغانستان، وكلّها مشاريع تتكامل مع هدفين رئيسيين، توظيف مسار «كامب ديفيد» وثقل خروج مصر من الصراع مع «إسرائيل»، وتكريس الزعامة السعودية في المنطقة، ومحاصرة المدّ الذي بدا أنه ينطلق مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما أثارته من مُناخ شعبي ثوري في المنطقة تصدّرته القضية الفلسطينية مع شعار الإمام الخميني «اليوم إيران وغداً فلسطين»، وردّ الشارع العربي بهتاف، «يا خميني سير سير نحنا جنودك بالتحرير»، الذي انطلق من بيروت وعمّ العواصم العربية. فالاجتياج «الإسرائيلي» للبنان الذي رعاه وزير الدفاع الأميركي كاسبار واينبرغر يومها، وتابع منتجاته المبعوث الأميركي فيليب حبيب، لم يكن حرباً على حزب الله الذي لم يكن موجوداً بعد، بل كان حرباً استباقية لولادته، وولادة أيّ محور مقاوم يلغي النتائج التاريخية التي رأتها واشنطن مع «كامب ديفيد»، وقلقت عليها مع انتصار الثورة الإيرانية.
خلال عقد من المواجهة، هزم المشروع الأميركي في المنطقة، في جبهته الرئيسية، رغم محاولات التعويض الجانبية عبر حرب الخليج والتموضع بذريعة احتلال الكويت الذي كان ثمرة توريط أميركي للعراق، كما التوريط بالحرب على إيران، وهو مسار التوريط ذاته الذي توّج بغزو العراق نفسه واحتلاله، لكن المسار الرئيسي للمواجهة رسم فشلاً لمسار «كامب ديفيد» والتموضع الأميركي على ساحل المتوسط من بوابة بيروت، فرحل المارينز وسقط اتفاق السابع عشر من أيار، النسخة اللبنانية عن «كامب ديفيد». وفشلت حرب الإخوان المسلمين على سورية.
عندما وسّع الأميركيون دائرة المواجهة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، رسموا خططهم على مساحة العالم، فكانت أوروبا مسرحاً لانتصاراتهم بعد حرب يوغوسلافيا، وتفرّدوا في رسم السياسة الدولية، وحاولوا احتواء سورية بمسار مدريد للسلام، واتفاق الطائف وتفويضها بإدارة لبنان، لكن العقد الثاني حمل المزيد من الفشل الأميركي في جبهة المواجهة الرئيسية، وهي مستقبل الصراع مع «إسرائيل» بعدما نمت المقاومة وعلى رأسها حزب الله، كثمرة لتجذّر نتائج الثورة الإيرانية من جهة، ولروح الشعوب الثورية وتوقها للمقاومة من جهة أخرى، وكان التتويج بانسحاب «إسرائيل» بلا تفاوض وبلا ثمن وبلا شروط من جنوب لبنان، مسجلاً انتصاراً نظيفاً واضحاً للمقاومة، فهزم الأميركيون رغم نجاحاتهم الجانبية في أوروبا التي هيّأت لهم نجاح حكمهم للعالم وقدرتهم على رسم السياسة بالمزيد من القوة حيث لا تنفع القوة، كما قال وزير دفاعهم الجديد دونالد رامسفيلد.
شكلت آسيا في العقد الثالث ساحة الحرب الأميركية، فكانت حرب أفغانستان وبعدها غزو العراق، والهدف تطويق إيران وتطويعها، وتهديد سورية وترويضها. وبسبب الفشل قرّرت أميركا تكرار ما فعلته عام 1982 فأوكلت لـ«إسرائيل» مهمة شنّ الحرب في عام 2006 لسحق المقاومة كمدخل لصياغة شرق أوسط جديد، وكانت النتيجة مرة أخرى هي الفشل. لكن هذه المرة على يد حزب الله، فخاضت حرب الفوضى، وجلبت تنظيم القاعدة الذي سبق وأسّسته لحرب شبيهة قبل عقود، مقاتلة العقائديين بالعقائديين. وبعد فشل جيشيها الاحتياطيين «إسرائيل» و«القاعدة»، في حربين متتاليتين، شهدت ولادة معادلات دولية جديدة، فروسيا عادت أقوى مما كانت أيام الاتحاد السوفياتي من بوابة حرب سورية، وإيران أقوى مما كانت قبل حرب العراق عليها، وحزب الله صانع معادلات إقليمية لا يمكن تجاهله.
لا يزال في الجعبة الأميركية الكثير من الخطط والمشاريع، لكن الحروب التي تشبه لعبة الشطرنج تختلف عنها، بكون الشوط الثاني لا يبدأ كما بدأ الشوط الأول، بل من حيث انتهى، وأميركا اليوم ليست أميركا قبل ثلاثة عقود ونصف، و«إسرائيل» ليست نفسها، والسعودية ليست نفسها، وتنظيم القاعدة ليس نفسه. وفي المقابل روسيا وإيران وسورية والعراق وحزب الله ليسوا كما كانوا، والخلل في الموازين صار مزدوجاً، سقوط هناك ونهوض هنا، وليس مجرد مكر وثعلبة أن يضع الأميركيون للقاء رؤساء أركان جيوشهم وجيوش «إسرائيل» والسعودية وحلفائهم، شعار «مقاومة هيمنة حزب الله على المنطقة» بعد عقود من انطلاق حزب الله تحت شعار مقاومة الهيمنة الأميركية «الإسرائيلية» على المنطقة.